"ثلاث فتيات، وثلاث أمنيات، والمصير واحد!"
أمنيات أبدية
فصل من الرواية
ملك وكتابة
ـ يوم الأمنية ـ
ارتكنّا إلى حائط، وانضممنا إلى بعضنا، أخرجت (مشيرة) شطيرة وبدأت تلتهمها في تأثر:
- أشعر بالذعر لكأني طفلة أضاعت أمها، أخبركما شيئًا، إن التيه لسيء، والرحلات مرعبة.
قالت (عصمت):
- هو خطئي من البداية أن أطعتكما، إن أطعتكما بعدها فلأُقتل أو أُشنق!
قلتُ لهما:
- لا تكونا طفلتيْن؛ نحن لسنا في مجاهل أفريقيا، نحن عند الأهرامات، يعني إذا تعذّر علينا الوصول للرفاق يمكننا ببساطة أن نستقل حافلة ونعود.
أشارت (مشيرة) إلى تجمّع على مد البصر:
- ما هذا!؟
دقّقّتُ النظر: كان تجمعًا للسيّاح حول شيء ما. قمنا ننفض ملابسنا إلى هناك، فإذا به مزارًا للأمنيات: بئر جافّة عميقة محاطة بالأسوار، وعلى الزوّار أن يرموا عملاتهم ويتمنوا، وقد خدعهم أحدهم بأن أمنياتهم مُجابة.
صاحت (مشيرة):
- وااو!
مدّت يدها بسرعة بجيب الجاكيت الذي ترتديه وأخرجَت جنيهًا معدنيًا همّت لترمي به، لكنها توقفت على ضجّة ما. استدرنا فإذا بمجموعة من الفتيات يقبضن على رجل عجوز يوسعنه ضربًا، ويحاول تخليص نفسه فيلوّح بعصاه ولكنه لا ينالهن، فيزيدونه من ضرباتهن والسباب، انفلتت منّا (عصمت) وذهبت إليه تدفعهن عنه في عنف قائلة:
- أقسم أن أمزقكن إربًا إذا لمستن شعرة من هذا المسكين! لم تعد بالقلوب رحمة! ولئن لم أمنعكن عنه فلأُقتل أو أشنق!
توقفت الفتيات إذ تفاجأن بسلوك (عصمت)، ومن خلفها جاء ضابط أمن على عجل:
- ما الذي يحدث هنا؟
بادره العجوز بوهن:
- لا شيء! لا شيء!
قال الضابط:
- إذًا لا تجمهر. فليذهب كلٌ إلى حال سبيله.
برطمت الفتيات بكلمة أو اثنتين قبل أن يبتعدن. في حين اقتربتُ أنا و (مشيرة) منه. كان واهنًا مضعضع الجسد وعينيه منغلقتين، ربتُّ على كتفه، وأصلحتُ من ثوبه.
مدَّتْ إليه (مشيرة) يدها بالجنيه المعدني، لكنه لم يبدِ أية استجابة، فطوت يدها بالجنيه، ويبدو أنها قارنت بين حالة العجوز وقيمة الجنيه، وأخرجت عملة ورقية أكبر قليلاً ومدّت بها يدها، ولكنه أيضًا لم يُبدِ استجابة، فكّرتُ أنه ـ ومع انغلاق عينيه والعصا في يده ـ لربما كفيف، وضعنا النقود بيده، وأجلسناه في أحد الأركان، وهممنا بالرحيل لكنه استوقفنا لاهثًا:
- لحظة!
ووضع يده في جيبه فأخرج عملة معدنية قديمة ومدّ يده بها قائلاً:
- أنتن بنات طيبات، خذن هذه العملة، إنها من عالم ليس بعالمكن، اقذفن بها في البئر وتمنين أمنية!
التقطت (مشيرة) العملة بسرعة:
- وستتحقق؟!
ابتسم العجوز في رضا. كانت العملة مطموسة الملامح مع هذا تبيننا على أحد وجهها رسمًا وعلى الآخر كتابة.
قالت (عصمت): لنرميها، علّها تستقر على ’الملك‘: السلطة والقوة والانحناء في حضرته.
قالت (مشيرة): لنرميها ودعيها تستقر على ’الملك‘: الشهرة والجاه وإشارات الأصابع إليه.
وقلتُ أنا: ولماذا لا تستقر على ’الكتابة‘: الحرف، بث الروح.. أصل الأشياء ومنتهاها...
نظرنا إلى بعضنا وضحكنا، شبّكنا أذرعنا وسرنا إلى البئر نردد: معانا ريال معانا ريال... للـ..للـ..لا..... لللـ للـ لا،،،
للـ..للـ..للـ... للـ..للـ..للـ...
قالت (عصمت) لـ (مشيرة):
- هاتِ العملة لأرميها.
قالت (مشيرة):
- أنا من سيرميها.
- بل أنا.
- بل أنا، أخبركِ شيئًا؟ وسأتمنى.
- أنا من يرميها يا (مشيرة) وإن رماها غيري فلأُقتل أو أُشنَق.
كنت أعرف ما الذي تتمناه كل منهما، (عصمت) المولعة بالحوادث والمجرمين والسفاحين، و (مشيرة) المهووسة بالنجوم والفنانين والمشاهير.. التفتُّ، سرحتُ في الأفق: وأنا.. عاشقة الأدباء والشعراء و.....
وقعت عيني على العجوز على البعد، كان ناظرًا إليّ بعينين متسعتين!!
وقع في قلبي: ألم يكن أعمى؟ التفتُّ أخبرهما، لكني وجدتُ (عصمت) وقد اختطفت العملة من (مشيرة) وقذفت بها إلى العمق، تبعتها بعيني إذ تسقط هي وفكّي معًا.. ضمّت (عصمت) رأسينا بكفيها، وتمتمت بشيء ما! حررتُ رأسي حين استطعت قائلة:
- لماذا تعجلتِ يا (عصمت)! إن هذا الرجل مبصر، لقد كان فاتحًا عينيه الاثنتين الآن!
- ماذا تقولين؟
- ها هو! انظري!
لكنّا إذ نلتفت لم نجد له أثرًا لكأنه اختفى. تهامسا بينهما:
- إنها تخرّف..
- لقد أذابت الشمس رأسها.
صحت بهما:
- اصمتا! إن هذا الرجل مريب، وأنا أخشى من تلك الأمنية، ماذا تمنيتِ يا (عصمت)؟
- دعكِ من هذا الآن، إن ما يشغلني لهو أخطر من هذا.
- وما هو؟
وضعَتْ ذراعها على كتفي إذ نسير وقالت:
- تلك البئر، المكدسّة بآلاف العملات والوريقات من كل لون... تُرى من الذي ينظفها ليلاً؟
أنزلتُ ذراعها في عنف:
- أنتِ لا تصدقينني.
ثم مددتُ الخطا، ومن خلفي أسمع (مشيرة) تحدثها:
- دعكِ منها واخبريني ماذا تمنيتِ يا (عصمت)؟
- لن أخبرك!
- بل اخبريني
- أخبرتك أني لن أخبرك!
- بل اخبريني، اخبريني، أخبركِ شيئًا؟ ستخبريني!
- بل لن أخبرك، لن أخبرك، وإن أخبرتك بعدها فلأُقتل أو أُشنق!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق